لم أكن أتخيل أن تلك السهرة التي ضحكنا فيها كثيرًا في أكتوبر/ تشرين أول ٢٠١٤ ستكون المرّة الأخيرة التي أرى فيها عمّي زياد، جاء من منزله المجاور لمنزلنا ليودعني في يوم السفر مشيًا ويداه خلف ظهره مثل “حنظلة” كما كان يحب وضعهما، جلسنا تحت شجرة الزيتون الكبيرة عند مدخل البيت، وأذكر أنه اقترح عليّ بعض الحِيل التي ينبغي عليّ أن أواجه فيها ضابط حرس الحدود المصري إذا رفض حقي بالسفر من فلسطين للدراسة في تركيا، تذكرت أسلوبه الفكاهي حين وقفت أمام الضابط لأول مرة، تحايلت فيها على مزاجيته بأفكار عمّي الجنونية، لاحقًا طلبت منه تسجيل الحيل مرة أخرى بالفيديو لأحتفظ بها للذكرى.

بعد خمس سنوات على اللقاء الأخير، أعدت مشاهدة هذا الفيديو الطريف لأحبس دموعي التي لم تكن لتتوقف بعد سماع خبر رحيله في منتصف شهر رمضان العام الماضي، كنت وقتها في مكتبة الجامعة أستعد لتقديم أول اختبار نهائي بعد ساعتين فقط، اتصلت في والدي لأسنده في رحيل أخيه الثاني والأخير بعد رحيل عمي رياض قبل ١٥ عامًا، وذكرته بحديث عمي الجميل في مكالمتنا الأخيرة عندما حدثني عن ذكريات حرب ٦٧ عليه كطفل يلعب في شوارع مخيم جباليا، وعبر لي عن فخره بسفرتي الأخيرة إلى جنوب إفريقيا، بلد النضال الذي سانده دومًا وتحدث لي عن معرفته بمسيرة نيلسون مانديلا زعيم النضال الإفريقي ضد الاستعمار الأبيض.
ووعدني بأن نتحدث مرة أخرى عند خروجه من المشفى وتحسن صحته لندون معًا سيرة شفهية للمرحلة التي عايشها في مخيم جباليا خلال الانتفاضة الأولى التي كان أحد أبرز قياداتها في المخيم، لكنه رحل بعدها بيومين دون أن تمنحني الحياة معايشته مزيدًا من الوقت، غادرنا إلى حياة الراحة الأبدية وتركنا في مشقة الدنيا نبحث عن معنى الأشياء وذكرياتنا مع من سبقونا.
الرفيق أبو طارق
كان الرفيق أبو طارق –كما كان يحب أن ينادى– عضوًا بارزًا في حزب الشعب الفلسطيني “الحزب الشيوعي سابقًا” ودوّن رفاقه في الحزب ذكرياتهم معه في مقالات عديدة، سأذكر هنا بعضًا من شهاداتهم عنه.

في نهاية ديسمبر / كانون أول ١٩٨٧ ذهب الرفيق “أبو طارق” إلى منزل صديقه طلعت الصفدي في حي الدرج وسط قطاع غزة مشيًا على الأقدام من مخيم جباليا شمال القطاع لعدم توفر مواصلات بسبب الإغلاق الذي كانت تفرضه قوات الاحتلال الإسرائيلي على غزة، التقى هناك برفاقه من حزب الشعب الفلسطيني للتخطيط لإدارة الانتفاضة الأولى في المخيمات، بعد أيام قليلة من اندلاعها ووضعوا مقترحات لاستقطاب الشباب والعمال داخل المخيمات لإشعال نار الانتفاضة.
اقترح “أبو طارق” تسجيل نداء الانتفاضة الأول الصادر عن قوى منظمة التحرير على شكل بيان صوتي وتعميمه في أزقة المخيمات، سجله بصوته المعروف بنبرته العالية باستخدام مسجل SANYO الأبرز في تلك الفترة: “نداء.. نداء.. نداء.. يا جماهير شعبنا العظيم.. أنتم تصنعون المستقبل.. إلخ” تخلل البيان أغانٍ وطنية ألهبت الجماهير وطالبتهم بتسجيل النداء بأصواتهم مرة أخرى وتوزيعه على المنازل وتشغيله في سيارات المخيمات بصوت مرتفع ليصل النداء للجميع، وبالفعل تم تسجيله أكثر من ٥٠٠ مرة. بعد شهر من الحادثة بتاريخ ٣١ يناير/ كانون ثاني ١٩٨٨ اعتقلته قوات الاحتلال وأرسلوه إلى سجن النقب الصحراوي، الذي تنقل منه إلى سجون الاحتلال الأخرى وصنع ذكريات كثيرة مع رفاقه في السجن وظل يرويها لنا في كل مرة نجلس حوله.

الفلسطيني حتى النهاية
لم يترك عمّي فرصة واحدة إلا وحدثنا فيها عن فلسطين التي تشكل له قضية أولى وعاطفة لا يتقدم عليها شيء، كتب عنها على دفاتره التي كان يختم صفحاتها باسم “ابن مخيم جباليا“، وذرف لأجلها دموعه الصادقة شوقًا إليها وحزنًا عليها، وغنّى لها أغنياته على أنغام عود رفاقه الأستاذ فاخر عوض والأستاذ عبد الله أبو شرخ وحسن الأستاذ، جنبًا إلى جنب مع أغنيات الشيخ إمام الثورية التي عرفناها من خلاله ورددها حتى آخر يوم في حياته، وذكر لي أحد الجيران الذين زاروه في أيامه الأخيرة في مستشفى الشفاء بغزة أنه بكى فجأة وهم جالسون حوله ولمّا سألوه عن الوجع الذي يشعر به، أجابهم بأنه يبكي فلسطين الوطن الذي سيرحل دون أن يشهده حرًا.
كتب ذات مرة في إحدى تدويناته عن غزة “هذه غزة التي أحبها ولن أغادرها، سأموت دفاعًا عن كل من فيها من أبناء شعبي وإخوتي ورفاقي“، فلسطين التي شهد على ضياع ما تبقى منها وهو طفلًا في الحادية عشر من عمره في عام النكسة، ووصف هذا الحدث في كتاباته ذات مرة بالقول: “قتلت جنرال الخوف بيدي القوية، وأصبحت فدائي صغير وما زلت على الطريق رغم الهزائم التي تنمو في بلاد العرب“.
رحل الرجل العظيم، دون أن أقبله قبلة الوداع الأخيرة، لكنّي سأعود يومًا إلى ساحة منزله الواسعة وأسقي شجراته التي طالما اعتنى بها كأنها جزء من روحه، وأبكيه مرة أخرى في مكانه المفضل، وأغني أغنيته المحببة من أغاني الشيخ إمام.
“يا حبايبنا فين وحشتونا.. لسا فاكرينا ولا نسيتونا؟
ده احنا فى الغربة فى الهوى دوبنا
وانتو فى الغربة.. جوا فى قلوبنا
اوعوا تفتكروا إننا تبنا
مهما فرقونا ولا بعدونا يا حبايبنا“